vendredi 27 février 2015

مسيرة الجبهة الشعبيّة بعد أربع سنوات من الثورة التونسيّة الجزء الأول (البدايات)

 
 

علني لا أجانب الصواب عندما أقول أنه عليك بكتابات مصطفى القلعي لتفهم ما يحصل داخل الجبهة الشعبية. قد يدحض البعض قولي هذا من منطلق أن مصطفى القلعي ابن الجبهة و لا يمكن أن يكون بالتالي موضوعيا في تحاليله : هنا تكمن المفارقة ! فالرجل يعتمد منهجاً علمياً تحليلياً نقدياً لما يحصل من تطورات داخل الجبهة و يحاول إن يأتي على مجمل الحيثيات. و لا يجب أن ننسى أنه كان في طليعة من نبهوا إلى الإشكالية المؤسساتية داخل الجبهة ( الإشكالية التي ما زالت قائمة و تهدد كيان الجبهة)


في هذا المقال المهم "مسيرة الجبهة الشعبيّة بعد أربع سنوات من الثورة التونسيّة" ، يعود مصطفى القلعي على أهم المحطات التي مرت بها الجبهة الشعبية منذ ولادتها و الاختبارت العسيرة التي مرت بها. 


ارتأينا، من منطلق منهجي؛ أن نقدم هذا المقال في جزئين بما أنه ينطوي على تحاليل مرحلية تستدعي الوقوف عليها والتأمل فيها.


أترككم إذاً مع الجزء الأول من مقال مصطفى القلعي "مسيرة الجبهة الشعبيّة بعد أربع سنوات من الثورة التونسيّة".


 مع تحيات فريق TERRA NOVA TUNISIE 


 الجزء الأول : البدايات
 



       اعتراف وعرفان
 
كانت المكوّنات السياسيّة المشكّلة للجبهة الشعبيّة موجودة في الساحة السياسيّة وناشطة فيها بفعاليّة منذ 14 جانفي 2011. وخاض أغلبها، بأسمائها الحاليّة التي دخلت بها ائتلاف الجبهة أو بأسمائها التاريخيّة التي كانت لها قبل ذلك، الانتخابات التأسيسيّة ليوم 23 أكتوبر 2011. وكانت قبل تلك الانتخابات قد شاركت في مختلف مراحل المسار الانتقالي لاسيما ما تعلّق منها بتوافقات الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي أو ما اصطلح على تسميتها بهيئة بن عاشور.
 
قبل 14 جانفي، وجب التذكير بالدور المؤثّر الذي لعبه قادة الجبهة في التعجيل بهروب بن علي لاسيما قيادة الشهيد الرمز شكري بلعيد والقيادي الألمعي عبد الناصر العويني لقطاع تقدمي مناضل هو قطاع المحاماة أثناء مسيرتهم التاريخيّة من قصر العدالة إلى شارع بورقيبة ووجودهم في الصفوف الأماميّة يرصّون الصفوف ويطلقون الكلمات الحماسيّة التي حشدت الجماهير أمام وزارة الداخليّة رمز استبداد النظام، فأرعبت بن علي يوم 14.
 
في اليوم نفسه، كان الزعيم حمّه الهمّامي في أقبية الداخليّة بعد أن تمّ اعتقاله إثر كلمته الحماسيّة التي أطلقها على الانترنيت يوم 12 جانفي 2011 والتي يدعو فيها الشعب التونسي إلى الاستمرار في الاحتجاجات إلى أن يسقط النظام ويطالب فيها بن علي بالتخلّي عن السلطة. لقد حدّثني حمّه عن لحظات عصيبة عاشها صباح 14 جانفي وهو مغلول اليدين والقدمين ومشدود بالسلاسل إلى سرير حديدي مزروع في بلاط القبو. فبعد أن على هدير الأصوات في شارع بورقيبة وتواتر إطلاق قنابل الغاز وتنامت إلى سمع الأعوان أخبار الانفلات الأمني وانهيار النظام، تركوا القبو هربوا وتركوا حمّه وحيدا مسلسلا معرّضا لمخاطر الاختناق أو الاحتراق.
 
شكري اليوم غادر الحياة ليسكن الأفئدة بعد أن طالته رصاصات الغدر الظلاميّة الإرهابيّة، ولكنّ الأيادي المجرمة لم ترتو من دماء الجبهويّين فعادت لتلحق الحاج محمد براهمي بكوكبة الخالدين في 25 جويلية 2013. وعبد الناصر قائد بصير لا يخفت صوته ولا ترتجف قامته المديدة وسند متين من مسانيد الجبهة مع زياد لخضر وأحمد الصدّيق وحياة حمدي والجيلاني الهمّامي وعمّار عمروسيّة وزهير حمدي ومباركة براهمي وبقيّة الكتيبة العتيّة. أمّا حمّه فقد صار من رموز تونس ومن كبار قادتها بعد أن نجح في قيادة الجبهة في فترات صعبة لاسيما بعد 6 فيفري 2013 و25 جويلية 2013 وأثناء جبهة الإنقاذ واعتصام الرحيل المجيد. كما نجح حمّه في الاختبار الانتخابي العسير وقاد الجبهة إلى التمركز في عمق المشهد السياسي التونسي.
 
هؤلاء القادة وجب شكرهم وتقدير جهودهم وتثمين تضحياتهم الفذّة في سبيل الجبهة، تضحيات كانت على حساب عائلاتهم وحياتهم الشخصيّة. لقد وصلوا الليل بالنهار وقطعوا تونس شبرا شبرا شمالا وجنوبا وشرقا وغربا. ولم يدّخروا حبّة عرق في اتجاه المشروع الكبير. وهذا الذي أنجزوه هو ثمرة اجتهادات وجب تقييمه بموضوعيّة وتاريخيّة مع تجنّب التفتيش في النوايا ودون إغفال القاعدة الإنسانيّة التنسيبيّة التي مفادها أنّ المجتهد يخطئ ويصيب.
 
كما فازت الجبهة عبر مسيرتها القصيرة بنخبة من العقول المفكّرة القادرة على توفير ما تحتاج إليه من عمق نظري ومن قراءات سياسيّة اجتماعيّة اقتصاديّة مثل حسين الرحيلي وفتحي الشامخي ومصطفى الجويلي ومحمود مطير وبيرم ناجي وعزالدين بوغانمي وحياة حمدي وخليفة شوشان ومحسن النابتي وشكري الحميدي وعادل الحاج سالم وغسّان بن خليفة وياسين النابلي وصالح العجيمي وشريف الخرايفي ومرتضى العبيدي وغيرهم ممّن تزخر بهم الجبهة وينتظرون فرصة المشاركة والإفادة. هذه العقول قادرة على تنشيط مركز دراسات وإثراء الفكر البشري بدراسات وأطروحات عظيمة.
 
إنّ اجتهادات هذه العقول الجبهويّة، باختلاف المواقع ووجهات النظر، وما رشح عن أقلامهم من حبر، وفّر للجبهة زخما نظريّا وسياسيّا أسعفها كثيرا في معركتها الوطنيّة ضدّ أعوان النظام القديم وماكيناتهم ومصالحهم وفي معركتها الانتخابيّة ضدّ الخصوم والمنافسين الذين كانوا كثرا ومتشابهين في التعارض مع الجبهة وأطروحاتها وفي معاركها السياسيّة الجوهريّة والجانبيّة وفي معاركها الإيديولوجيّة ضدّ الرجعيّة والإرهاب التكفيري. فشكرا لأقلامهم التي لم يكتفوا بها بل رفدوها بنضالهم الميداني إلى جانب رفاقهم في مختلف الساحات والميادين. ولم يكونوا نخبا مقيمة في أبراج عاجيّة تطلّ من علٍ.
 
   
تشكّل الجبهة
 
لقد تشكّلت الجبهة الشعبيّة قبل أزيد من سنتين وربع السنة يوم 06 أكتوبر 2012. وكان تشكّلها بفضل عزم قادة بعضهم معروف وأغلبهم مجهول، فجنود الخفاء الجبهويّون أكثر من الأبطال المشاهير. لقد جاءت الجبهة نتيجة لتقييم نتائج انتخابات 23 أكتوبر وما حفّ بها عوامل متدخّلة مؤثّرة فيها بشكل حاسم. فلقد فهمت الأطراف التقدمية أنّها تفتقر إلى عوامل كثيرة فاز بفضلها خصومها في الانتخابات فوزا ساحقا، أهمّها خمسة :
 
الوحدة
-  قراءة نفسيّة اجتماعيّة لطبيعة المجتمع التونسي
الماكينات الإعلاميّة الداعمة
المال
الدعم الخارجي
 
انبنت الجبهة على أرضيّة سياسيّة ممتازة احترق رفيقات ورفاق لنا في الاشتغال عليها طيلة أشهر. وكان الإعلان عن تأسيس الجبهة حدثا كبيرا في قصر المؤتمرات صبيحة يوم الأحد 06 أكتوبر 2012. يومها زلزلت صرخة شكري « ارفعوا رؤوسكم.. إنّكم في حضرة الجبهة الشعبيّة » أركان قصر المؤتمرات. يومها اجتمع اليساريّون المتحزّبون من العمّاليين والوطنيّين الديمقراطيّين والماركسيّين اللينينيّين والتروتسكيّين والماويّين والقوميّين الناصريّين والبعثيّين العفلقيّين والصدّاميين وغير المتحزبّين وحتى غير المتأدلجين من الديمقراطيّين والحداثيّين والمابعد حداثيّين. وجاء الجبهويّون من كلّ مكان مؤمنين بالفكرة حالمين بالوحدة واثقين في المصير الواحد. لقد كان الحماس عاليا، وكان الجميع يشعرون بالنخوة والقوّة.
 
 
 
 
 جريمة الرشّ في سليانة والاختبار الأوّل للجبهة
 
بعد شهر ونصف تقريبا من تشكّل الجبهة الشعبيّة، كانت حكومة الترويكا تعيش تحت ضغط انقضاء الشرعيّة الانتخابيّة التي انتهت يوم 23 أكتوبر2012 كما ينصّ على ذلك الأمر الرئاسي المنظّم للانتخابات. كان التخبّط كبيرا والحلول معدومة. فالترويكا متشبّثة بالحكم. وارتفعت خطابات التنكّر للتعهّدات بمدّة السنة على ألسنة رموز الترويكا لاسيما راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الذي قال « إنّ التزامنا بمدّة السنة التي نصّ عليها القانون كان أخلاقيّا وليس سياسيّا »  وكذلك منصف المرزوقي رئيس الجمهوريّة المؤقّت الذي كان قد طالب بمنحه مهلة 6 أشهر وإذا لم ينجح في تحقيق ما وعد به فإنّه سيستقيل من منصبه.

حينها ارتكبت حكومة الترويكا الأولى، التي كان يرأسها النهضوي حمادي الجبالي ويمسك بحقيبة الداخليّة فيها النهضوي الآخر علي لعريّض، جريمة زخّ سلاح الرشّ على أجساد المتظاهرين العزّل المطالبين بالتنمية والتشغيل والكرامة في مدينة سليانة في إقليم الشمال الغربي التونسي المفقّر. كان اختبار قوّة بالنسبة إلى حكومة الترويكا التي تقودها حركة النهضة. فوالي سليانة اتّهم الشباب المحتجّ بتهم سخيفة مضحة تكشف حجم العدوان الذي سلّطته الترويكا على تونس بتوظيف مثل هذا الوالي في مركز سيادي يدير من خلاله شؤون الناس ويتحكّم في حياتهم. لقد اتّهم والي سليانة شباب سليانة باستيراد الحجر الذي كان يُلقى على قوّات القمع. وعوض أن يعتذر رئيس الحكومة حمادي الجبالي عن هذا المستوى الهزيل لأحد رجالات حكمه، خرج على التونسيّين بابتسامته العريضة قائلا: « ما عادش عندنا ديـﭬـاج.. والوالي هذا ما يخرجش، نخرج أنا قبلو. » وتساءل الجبالي ببلاهة لامتناهية: « ماذا يفعل عبد الستّار بن موسى رئيس الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان في سليانة!؟ » والرجل ابن سليانه وبيته ومكتبه للمحاماة هناك!!
 
وحين أعجز الترويكا إيقاف سيل احتجاجات سليانة العارم رغم منسوب القمع الرهيب الذي تعاطت به مع المحتجّين، التجأت إلى اتهام الجبهة الشعبيّة بتحريك الاحتجاجات مقابل أموال تدفعها إلى المحتجّين! واتّجهت الاتهامات رأسا إلى الشهيد القائد شكري بلعيد. وكان حينها في المغرب. وعندما عاد شكري إلى تونس والاحتجاجات لم تهدأ بعد وجد رفيقه حمّه الهمّامي في انتظاره في المطار مع جمع من رفاقه في الوطد الموحّد وفي الجبهة حماية له ومساندة. ويومها كان شكري عالي الصوت كما ألفه التونسيّون وقال قوله المأثور: « هذا شرف لا أدّعيه وتهمة لا أنكرها »، وقال عن وزير الداخليّة علي لعريّض: « الاسم علي لعريّض والمهنة رفيق الحاج قاسم ».
 
لم ترتبك الجبهة باتهامات النهضة لها. ولم تنكر وقوفها إلى جانب المحتجّين ومساندتها للاحتجاجات السلميّة المطالبة بالحقوق. بل تبنّتها ودافعت عنها بقوّة. ونجحت في الاختبار الأوّل بتفوّق فيما تداعت حكومة الجبالي للسقوط وتبعثرت خطواتها وتاهت عنها سبل الخلاص.
 
 
....يتبع


بقلم مصطفى القلعي


 
 
 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire