samedi 26 novembre 2011

الطريق الوعرة للنهضة

 نضال مكي

حققت حركة النهضة فوزا واضحا في الانتخابات وحق لقياداتها ورموزها أن يوزعوا ابتسامات الرضا والنخوة وأن يقدموا لكل من طلب و من لم يطلب ضمانات حول النهج المعتدل الذي ستتمسك به الحركة في السياسة والمجتمع. كل هذا لم يكن كافيا لطمأنة بعض الأطراف التي تقول أن هذا خطاب مزدوج ريثما تستقر الحركة في الحكم وتمسك جيدا بمقاليد البلاد ثم تكشف النهضة عن وجهها الحقيقي. كلام قد يكون فيه الكثير من الصحة لو توقفنا فقط عند رؤية وتصور "النهضوي البسيط" الذي يعتقد في أحيان كثيرة أن النهضة ستسارع بتطبيق الشريعة وتعمل على تأكيد الطابع الديني للدولة أي على جعل تونس دولة إسلامية ولا فقط مسلمة. غير أن الواقع أعقد من ذلك بكثير. والنهضة رغم فوزها الكبير وكغيرها من الأحزاب، وإن كان وضع المنتصر يوفر ضمانات وراحة نسبية، تعترضها صعوبات جمة وتنتظرها طريقة طويلة ووعرة محفوفة بالخطوط الحمراء والعوائق وحتى الفخاخ. ولعل قيادات النهضة أكثر الناس وعيا بهذه المسائل ولعلها تحسب حسابها لمصاعب المرحلة القادمة أو ربما شرعت في ذلك منذ أمد بعيد.



نمط العيش التونسي

أولى هذه الخطوط التي يصعب تجاوزها هي كون التونسيين ومن بينهم الكثيرون الذين صوتوا للنهضة تعودوا على نمط عيش استبطن في الجزء الأعظم منه ثقافة الاختلاط بين الجنسين وعمل المرأة ويعترف فيه بحيز هام للحرية الشخصية في مظاهر الحياة اليومية وأصبح تعدد الزوجات مثلا مسألة مرفوضة اجتماعيا قبل أن تكون كذلك قانونيا وسياسيا.. كما أن السواد الأعظم من الناس يرفض العنف والإجبار والقهر سيما وأن ديكتاتورية بن علي لا تزال في الأذهان إضافة إلى أن تجربة طالبان في أفغانستان والعنف في الجزائر المجاورة لن تسهل تصلب الحركات الإسلامية ولجوءها لإجبار الناس على نمط معين من الحياة. بما يعني أن النهضة وخاصة قواعدها والمنتسبين لفكرها إذا راودتهم فكرة إرساء منظومة سلوكية تتناقض جذريا مع ما تعود عليه التونسيون منذ قرن ونيف من الزمن بشكل قسري وشامل فإنها لن تواجه فقط معارضة السياسيين والحقوقيين بل امتعاض الناس وخاصة النساء والشباب. إن النهضة، ككل حزب، عليها أن تكون في طليعة المجتمع وأن تقود التغيير الاجتماعي الأصيل أو على الأقل إن لم تقده (وهذا طبيعي بالنسبة لحزب محافظ) أن تأخذه بعين الاعتبار وأن لا تعترضه وإلا فإن المجتمع قبل السياسيين سيتركها عاجلا أم آجلا وراءه.

تركيبة المجتمع السياسي

النهضة تعلم جيدا أنها ليست اللاعب الوحيد في الساحة السياسية. فالظاهرة الحزبية في تونس قديمة ولها جذورها في المجتمع حتى وإن أضرت بها بشكل كبير المنظومة القمعية لبن علي. ونتائج الانتخابات تظهر أن الكثيرين من التونسيين وضعوا ثقتهم في حزبي المؤتمر والتكتل وعلى هذين الحزبين تلقف هذه الرسالة وإدراك معانيها بعمق ودقة. إن وجود أربعة أو خمسة أحزاب في المشهد السياسي وإن تفاوتت أحجامها في الوقت الحاضر يمثل ضمانة للتوازن داخل الساحة السياسية بما يجعل من الحزب صاحب الأغلبية قادرا على الحكم دون أن يستطيع المساس ببنود العقد الاجتماعي التي سيقع الاتفاق عليها في الدستور.

المعادلات الإقليمية والدولية

تعلم النهضة أنها تتحرك في محيط إقليمي ودولي معقد ومناوئ للحركات الأصولية المتشددة وبالتالي فهي ستعمل على المحافظة على الخطاب المنفتح ولن تغامر بين عشية وضحاها بالنكوص على عقبيها والتراجع عن كل ما وعدت به من طابع مدني للدولة واحترام لحقوق الإنسان والحريات الشخصية. إن أي انحراف من النهضة إلى اليمين سيجعلها في عزلة دولية وسيزيد في تعقيد الوضع الاقتصادي. وقد يفضي الركود الاقتصادي وتدني مستوى العيش إلى شعور مناوئ للحركة التي ستكون لها الذراع الطولى في الحكم. كما أنه قد يؤكد ما تأخذه أطراف عديدة على الحركات الإسلامية عموما من أنها حركات شعارات وإيديولوجيا وليست لها برامج اقتصادية واضحة وقادرة على النهوض بالبلاد وحل مشاكل الحياة اليومية للمواطنين.


الأصل والنسخة

ربما يكون التحدي الأكبر الذي ستواجهه النهضة قادما لا من اليسار أو الوسط بل من اليمين أي من الحركات التي تتموقع على يمين حركة النهضة. صحيح أن الفكر السلفي المتشدد لا ينتظم في أحزاب معترف بها إلا أنه لا يجب إنكار أن له أتباعا كثرا في الأوساط الشعبية والشباب المهمّش والعاطلين عن العمل ومتوسطي الثقافة. بل إن الكثيرين من الذين صوتوا للنهضة هم أقرب للفكر السلفي منهم إلى خطاب النهضة وبرامجها. ولعلهم بذلك أرادوا أن يحملوا هذا الحزب إلى السلطة حتى يتسنى لهم العمل بحرية أكبر ويؤكد هذا ما تبديه النهضة من تفهم لحزب التحرير و من عدم استبعاد الاعتراف به إذا نبذ العنف. ويبدو أن هذه محاولة من النهضة لاحتواء السلفيين الذين يعتبرون النهضة حزبا مبالغا في المرونة بل وبعيدا عن النمط الإسلامي للحكم. إن دخول السلفيين على الخط وبشكل مباشر من شأنه أن يبعثر أوراق النهضة فالكثير من الناس يفضّلون الأصل على النسخة بمعنى أنه إذا كانت أهداف النهضة الحقيقية وبرامجها البعيدة المدى تتماهى مع برنامج السلفيين وأطروحاتهم فلم الانخراط في النهضة؟ والحال أن طرح حزب التحرير و غيره من السلفيين يمثل "الطرح النقي" المتماسك (بغض النظر عن نظرتنا الخارجية له من كونه متشددا و تجاوزته الأحداث) كما أنه يمثل خيار الصراحة والتمسك بالمبدأ في مقابل اللجوء للخطاب المزدوج والمناورة وحتى النفاق السياسي والقبول تكتيكيا بقواعد السياسة التي  يراد لها أن تتغير جذريا (وهذه من جملة مآخذ التحريريين على النهضة). كل هذا من شأنه أن يدفع بالذين يرون أنفسهم في الفكر السلفي إلى التصويت للحزب الذي يمثلهم مباشرة ولا إلى "الجار الفكري السياسي". إن الترخيص لحزب التحرير يعني نهاية عصر التقية للسلفيين وظهورهم للعلن بلا وسائط ولا أقنعة.
ومن جهة أخرى فإن تنامي التيار السلفي سيجعل من الشريحة التي صوتت للنهضة على أساس ضمانات الاعتدال التي قدمتها وبرنامجها تطالب النهضة بالتميز والابتعاد عن اليمين السلفي كما أنها ستنسلخ عن النهضة إذا تبين أن هذه الأخيرة تتقارب أكثر فأكثر مع السلفيين وهو ما قد يجعل النهضة تخسر أصواتا عديدة في المواعيد الانتخابية القادمة.

فلو استمعت إلى خطاب أحد قياديي النهضة لما لاحظت كبير اختلاف بينه وبين حزب وسطي ولو جلست إلى "نهضوي" من قواعد النهضة لأدركت البون الشاسع الذي يفصل خطاب القيادة عن تصورات القواعد ورؤاها و"أحلامها". وهنا يكمن الدور التربوي التوعوي للنهضة إن أرادت أن تكون وأن تظل حقا ما تقول أي  أن عليها إعلان حوار شامل وعميق مع قواعدها لتفسير فكرها وتبسيطه وتجذيره خاصة لدى شبابها الذي لا يدرك ضرورة المراجعة الذاتية التي قامت بها الحركة منذ ثمانينات القرن الماضي. إن عدم مسارعة النهضة بهذا العمل البيداغوجي وهذا الحوار الفكري مع القواعد سيخلق حالة من الضبابية ويجعل من النهضة ظاهرة حزبية غير واضحة المعالم قد تنجح في الوصول للسلطة ولكنها لن تستطيع  البقاء فيها طويلا. إذ أن امتحان ممارسة السلطة يجبرك على اختيار نهج واحد واضح وحاسم. واللعب على الغموض الذي يجعلك تخاطب الكثيرين في حملة انتخابية يتحول عند ممارسة السلطة إلى غموض لا يخاطب أحدا بل ومربك ومعطل وسبب من أسباب التفتت والانقسام.

نهاية القداسة
قد لا يكون عنصرا محددا ولا مصيريا ولكنه قد يؤثر على صورة حزب حركة النهضة لدى الرأي العام: إنها نهاية القداسة. فلوقت طويل وحتى انتخابات 23 أكتوبر ظل النهضويون ملاحقين وعرضة للسجن والتعذيب وهو حال جميع المعارضين. غير أن كون النهضة حزبا ذا مرجعية إسلامية أضفى عليه مسحة من القداسة خاصة في ظل الفكرة التي تقول بأن نظامي بورقيبة وبن علي حاربا بشكل  من الأشكال الهوية العربية الإسلامية لتونس. كما أن البعض من النهضويين قدموا أنفسهم قبل الإنتخابات في صورة "حزب الله" الذين صبروا وصابروا ورابطوا في ظل الاستقطاب السخيف والمصطنع الذي حصل بين الإسلاميين والعلمانيين .أما اليوم فالنهضة لم تعد حزبا محظورا ولا ملاحقا ولا حتى معارضا بل أصبحت الحزب الفائز بالأغلبية وعمليا الحزب الحاكم. ومع امتحان السلطة وتحدياته وكثرة الطلبات الاجتماعية وتناقضاتها ومتطلبات السياسة الخارجية وضروراتها وأحكام السياسة بما هي فن الممكن ستنزل النهضة من السماء إلى الأرض وسيفقد اسمها بريق القداسة وطعم المحظور المرغوب فيه. وستصبح النهضة حزبا كغيره له برنامج يدافع عنه قد ينجح فيه وقد يفشل و قد يفي بوعود لجهة معينة ويستعصي عليه الإيفاء بوعوده لجهات أخرى. ويحتكم كغيره دوريا لصناديق الاقتراع فيجازى ويثاب أو يستعاض عنه بغيره. لقد أراد جزء من التونسيين أن يجربوا شيئا لم يجربوه قط، حزبا يقول لهم اسمعوا منا ولا تسمعوا عنا، ومن يدري لعل التونسيين بعد أن يستمعوا إليه سيقولون: لقد رأينا هذا من قبل!


 نضال مكي

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire