mardi 30 octobre 2012

وجهة نظر: اليسار و الإنتهازيّون


دولة لن يطهرها إلا الدّم، فلا انتخابات ستنفع و لا ديمقراطية ستشفع، و لكن ما يثلج الصّدر أن غباء من أمسكوا بمقاليد الحكم هو عدوّهم اللدود، و هم يحفرون قبورهم بأيديهم إذ يجوعون النّاس و ما من جائع يعرف إلاه غير الطّعام و ستلفظهم هذه الأرض إن طال الزّمن أو قصر

Dhiaeddine Boufahja





منذ فجر هذا التّحرّك الشعبي (1) و اليسار التّونسي لم ينفكّ عن العمل ضدّ مصلحة البلاد عن قصد أو عن جهل.في البداية، و في خضم النّشوة بانتصار "إرادة الشّعب" بـ "هروب الرّئيس" (2) بدا التّونسيّون في معظم الأحيان كسكارى في نشوة لم تكن منتظرة، فلا أحد كان يعلم ما حدث، و لا أحد كان يضع أهدافا لما اشترك فيه.. كان ذلك تعبيرا عن فقر، أو ضيم، أو ملل من رتابة سياسيّة، أو توقا لحياة أفضل و أكثر رقيّا .. كلّ يغنّي على ليلاه في تدافع و خوف قد يتحوّل شجاعة مع الإنصهار في المجموعة الثّائرة

و حالما أعلن نبأ شغور أعلى هرم في السّلطة، بدأ الموت السّريري للحراك الشّعبي التّونسي بتفرّق النّاس مللا و نحلا.إذ لا بدّ من القول بأن السّواد الأعظم من النّاس، و منهم كاتب هذه الكلمات، كان جاهلا بعالم السّياسة (كلّيا أو جزئيّا، كلّ حسب ثقافته و وسطه الإجتماعي)، و لئن كانت أغلب النّوايا حسنة، فإنّ الطّرق المتوخّاة و تصوّرات المستقبل المنشود لهذا البلد لم تكن كلّها كذلك.

بدأت تتبلور تحرّكات اليسار التّونسي (وخاصّة الشّق الرّاديكالي منه) في اعتصام القصبة الأوّل مع ما شهدناه من أحداث، إذ أنّ فترة حكومة محمد الغنوشي كانت أهمّ محطات الموت السّريري: لم تجن تونس من هذه المرحلة سوى إضاعة للوقت و إخماد للزّخم الشّعبي و تفرقة للمطالب بين ما يرى أحقية هؤلاء بالحكم باعتبار الخبرة و خوفا من المجهول أو خشية على مصالح ضيّقة، و بين من يرى في ذلك خيانة لمن ماتوا و تواصلا لنهج السّابقين.. و بين هذا و ذلك، ضاع المطلب الأساسيّ: الحرّية.لقد تهافت التّونسيون على اختلافهم في اختيار شكل جديد للسّجن الّذين يخيّرون العيش بين قضبانه

و مع الإعتصام الثّاني، بدأ الإستقطاب الثّنائي يولد، و شهد التّونسيون مظهرا سياسيا و اجتماعيا جديدا: التّخوين و التّخندق الفكري.بين "ثوريّين" و بين "تجمّعيين"، بين "مسلمين صادقين حامين للشّهداء" و بين "مارقين"، بين "كادحين منتفضين" و بين "بورجوزاين -متقبّبين- " .. ضاع المواطن البسيط، و صارت الصّورة أكثر ضبابيّة يوما بعد يوم

حينها دافع يسارنا المغوار عن فكرة عبقريّة، فكرة شديدة الذّكاء، فكرة رائعة: المجلس الـتّأسيسي.

سأمتنع عن الخوض في "حتميّتها الثّورية" و اقتدائها بنهج ثورات أخرى، و غيرها من الحجج و البراهين الّتي قدّمت لنا و استهلكناها على مضض، لأخوض في سؤال بسيط، كنت قد طرحته قبل تنفيذ هذه الخطوة: من سيحاسب هذه السّلطة؟ من رقيبها؟ ما حدودها؟كانت الإجابات تتراوح بين شتائم، و بين اجترار لقوالب جاهزة، و بين تخوين. و ما من إجابة مقنعة: "المجلس سيّد نفسه" و "الشّعب" هو الرّقيب.. غير أن الشعب أضحى مللا منذ ذلك الحين..

في الأثناء، كان الإسلاميّون قد استجمعوا قواهم المنهكة، و رتّبوا بيتهم الدّاخلي على عجل ليملؤوا الشّارع و السّاحات جلبة، فالثّورة غطاء، و الدّين مشترك بيننا، و المخلوع ظالم و هم المظلومون و ماضيهم مكذوب عليه و حاضرهم بين أعين المراقبين..

التحم يسارنا بالإسلاميّين رغم اختلاف الأهداف و المبادئ و صراع الماضي، و صار مخالفو الإسلاميين يطعنون و يخونون بعضهم البعض.. و كانت القصبة حصان طروادة.

وبينما اهتم الإسلاميون بتنظيف صورتهم و زركشة أدرانها الماضية داخليا و خاصّة خارجيا، و بينما اهتموا هم بجمع الأموال و ملئ منابر الحوار و احتلال الشّاشات، كان يسارنا يغوص في الجملة الثانية للفقرة الثالثة من الصفحة العاشرة للفصل الأول من مسودة برنامج لتوحيد حزبين يضمان معا عشرة أنفار و هلّم جرّا...
وكان لي "شرف" حضور مؤتمرات توحيد، خرجت منها غاضبا حانقا، موقنا بانخرام التّوازن و موجسا من السّقوط مجدّدا في فخّ سلطة فاسدة جديدة..

لقد ساهم يسارنا في نقل السّلطة (أو لنقل السّلطات الثّلاثة) التّي كانت في قصر قرطاج مجتمعة، إلى قبّة التّاسيسي في قبضة الإسلاميين دونما سلطة مضادة، أو رقيب أو حسيب (له وزن). أمّا كلمتا "حرية" و "كرامة" فقد وجدتا مستقرّا هائنا في رفوف السّلطة و دواوين الأرشيف

و ما من فائدة ترجى من استعراض الوقت المهدر في المجلس الأوّل طويل الإسم عديم الفائدة أو أخطاء هذا المجلس و تجاوزاته و ما حفّ الإنتخابات الموصلة إليه من تجاوزات لعلّ أبسطها المال السّياسي الفاسد، و دونما حديث يؤلّب الإمتعاض و الوجع فينا عن قيمة النّواب و تفاهة المداخلات و غباء جداول الأعمال، و بغضّ النظر عن تجاوز المجلس لمدّته و عدم قيامه بواجبه الأساسي....ها نحن اليوم أمام الأمر الواقع: سلطة عديمة الكفاءة، كثيرة الهفوات، متضاربة الأقوال، منحطّة الثّقافة..و معارضة مشتّتة يطعن بعضها بعضا بلا فكر أو توجّه سياسي واضح

و لم يكتف يسارنا بذلك، بل ساهم بسلبيّته في دعم العنف الّذي أطلّ شبحه على البلاد منذ أشهر. لقد انتقلنا من التّهديدات و الهرسلة، إلى خلع المكاتب و مقرات العمل، وصولا إلى تكوين الميليشيات و الإعتداء في وضح النّهار على أي حراك معارض، مرورا بالتّصفية الجسدية و إزهاق الأرواح، أمام صمت لعلّه تواطؤ أو قصر ذات اليد من الجهازين الأمني و القضائي

انتظر الجميع الفرصة المواتية، بانتهاء الشّرعية الإنتخابية المزعومة، لإنتزاع الوزارات الحسّاسة من أيدي هذه المجموعة من الأغبياء، و لكنّ البلاد ترزح تحت ثقل غباء أشدّ وطأة، إنّه غباء اليسار.و بدل أن تدخل البلاد في إضراب عامّ يشلّ الحركة و يجبر السّلطة على تقويم اعوجاجها المفضوح بانتظار خلق "شبه" حالة توازن سياسي، عمد اليسار مشفوعا بالنّقابة إلى مدّ السّلطة المختنقة بحماقتها بـ " جرعة أكسجين" و كان التّفاهم بينهم على حساب المواطن البسيط..

عندها، إنتقل أنصار السّلطة (بشقّيهم : المعتقد فيما يفعله و الإنتهازي) من مرحلة التّخبط و العدوانية إلى مرحلة الغرور و التّبجح

أرجو أن يستمتع يسارنا العزيز بمشهد عصابات حماية الثّورة تجوب المقاهي بحثا عن "تجمعيين" أو "يساريين" أو "علمانيين" ..الخ من المسمّيات التي لا يفقهون لها كنها، أرجو أن يسعد زعماء المعارضة برؤية دم يراق و أرواح تزهق هدرا، أرجو أن يستمع الذين التصقوا بالإسلاميين لخدمة مصالحهم الشخصية بمشهد الجوامع و هي تتحول إلى أوكار لسقط المتاع و مرتع لعصابات هي أبعد ما يكون عن بساطة التّونسي المصّلي و إلى منابر لعنف يزرع في عقول النّاشئة و البسطاء..

مشاهدة ممتعة للجميع، إن كان البعض طوباويا في تصوره، فأنا أرى البلاد تنتقل من طور الجمود الفكرّي  و التأخر الإقتصادي بسبب استفحال المافيا، إلى طور التّراجع المكوكي في غياهب التاريخ المظلم بسبب خلط المقدس بالمدنس و توطؤ النخب سلبا أو إيجابا في تدمير مقوّمات الدّولة مع ديناميكية حقيقية في تغيير المجتمع من القواعد نحو شكل يناسب هذه السلطة و يدعم ركائزها

دولة لن يطهرها إلا الدّم، فلا انتخابات ستنفع و لا ديمقراطية ستشفع، و لكن ما يثلج الصّدر أن غباء من أمسكوا بمقاليد الحكم هو عدوّهم اللدود، و هم يحفرون قبورهم بأيديهم إذ يجوعون النّاس و ما من جائع يعرف إلاه غير الطّعام و ستلفظهم هذه الأرض إن طال الزّمن أو قصر
 
____________

1 - أمتنع عن تسمية ما عشت و شاهدت و راقبت بثورة، إذ أن التّحرك الشّعبي كان متفاوت القوّة و الأهداف و المظاهر. فما من فكر كان يتبلور وراء الأحداث، و ما من طبقة ثقافية أو سياسية انبثقت عنه. إنّها أشبه بانتفاضة الخبز (حسب ما قرأته و سمعته عنها) في عدّة مظاهر

.2- هل هرب الرّئيس السّابق و تمّ "خلعه" فعلا؟ أم كان مجرّد توارد لصدف أدّت إلى انقلاب على السّلطة؟ لا أحد يعرف حقيقة ما حدث في 14 جانفي بالتّفاصيل، و حتّى التّحقيقات و الوثائق الّتي بين أيدينا لمسؤولين حكوميّين و أمنيّين و شهود عيان تبقى شحيحة في عدّة جوانب و متضاربة أحيانا

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire