lundi 5 mars 2012

مقترح عملي حول الشريعة والدستور

بقلم: الدكتور محمد الحداد (*)


ـ عندما طرحت في الأشهر الأولى من الثورة قضيّة الفصل الأول من الدستور، انقسم الرأي العام التونسي بين مؤيّد للتشديد في هذا الفصل بإضافات تؤكّد إسلاميّة الدولة، ومؤيّد لصياغة تنسجم مع دساتير الدول الديمقراطية في العالم التي تتفادى التنصيص على الدين كي لا توظّفه الحكومات لغايات سياسية ومصلحيّة. وقد قدّمنا آنذاك على صفحات جريدة "الصباح" بتاريخ 21 فيفري 2011 مقترحا عمليّا حول الفصل الأول من الدستور يقتضي المحافظة على هذا الفصل مع تعديله تعديلا لغويّا طفيفا ليكون بالشكل التالي:

" تونس دولة مستقلّة، يتمتّع شعبها بالحريّة والسيادة، العربيّة لغتها، والإسلام دينها، والجمهوريّة نظامها"، ثم إضافة فصل مفرد حول الحريّة الدينيّة على الشكل التالي: "تضمن الدولة التونسيّة حرمة الإنسان وكرامته وحرية المعتقدات والرؤى الوجودية والممارسات الشعائرية في حدود الاحترام المتبادل والمحافظة على الأمن العام"، مع الإبقاء على مضمون الفصل السادس من دستور 1959 الذي ينصّ على أن "كلّ المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون"، كي لا تترتّب على اختلاف العقائد والرؤى الوجوديّة عواقب في مستوى الممارسة العمليّة للمواطنة.

واليوم، تثار قضيّة أخرى هي تضمين مفهوم الشريعة في الدستور، ويتطلّب الأمر النظر مجدّدا في القضية بطريقة معمّقة وعمليّة، فأوّلا: ماهو المقصود من كلمة "شريعة" ؟ وثانيا، ماهي الصيغة الأكثر عمليّة التي تحقّق التوافق بين التونسيين في هذا الموضوع؟

لقد كان الدفاع عن الشريعة موقفا مشروعا أثناء الفترة الاستعمارية لأنه كان يعني آنذاك الردّ على الدعوات الاستعمارية التي تزعم أننا مجتمعات همجيّة لا علوم لنا ولا قوانين، جاء الاستعمار لينشر بيننا الحضارة، لذلك ردّت الحركات الإصلاحية والتحريرية على هذه الدعوى بتأكيد وجود شريعة إسلامية، بمعنى تراث قانوني يثبت تأصّل شعوبنا في الحضارة وعدم حاجتها للوجود الأجنبي لينظم لها شأنها. والحقيقة أن هذا النقاش قد حسم وفقد أهميّته منذ التخلّص من الإدارات الاستعمارية المباشرة، فقد أصبحت القوانين تتخذ باسم الشعب وليس باسم إدارة الحماية، لكن تحوّل المشكل بعد ذلك إلى أنظمة ديكتاتورية مدعومة بالقوى الاستعمارية السابقة تطبّق القوانين على الشعب ولا تطبّقه على نفسها وعلى المقرّبين منها، لذلك لم تعد القضية الرئيسية الشريعة وإنما الديمقراطية التي تضمن المساواة التامة أمام القانون بإرساء نظام حكم يخضع فيه الحاكم إلى إرادة المحكومين ومراقبتهم ومحاسبتهم.

وإذا راجعنا القوانين التونسية وجدناها متناغمة في غالبها مع الشريعة، فهي تمنع القتل والنهب والسرقة والاعتداء على الأشخاص والممتلكات وتجرّم التحيّل والخيانة والتدليس والزور، وتحمي حقوق المرأة التي عانت طويلا من القهر، وتحمي حقوق الإنسان عامة كما تحمي حقوق الطفل والفئات الأكثر ضعفا في المجتمع، فهذه هي مضامين الشريعة الإسلامية، بل هذه مضامين كل الشرائع الدينية التي اضطلعت بدور أساسي في تهذيب الجنس البشري على مدار تاريخه الممتد ثلاثة ملايين سنة منذ ظهوره على البسيطة.

أما مواطن الاختلاف بين الناس اليوم فهي تختزل في هذه المسائل الثلاث: أوّلا، هل يجوز للهيئة التشريعية (البرلمان) أن تتخذ قوانين جديدة واجتهادات مبدعة لم ترد سابقا في كتب الفقه الإسلامي، مثل أن تمنع تعدّد الزوجات ؟ ثانيا، هل الهيئة التشريعية ملتزمة بمقصد النصّ الديني أم بحرفيته، فهل المطلوب منها مثلا أن تسنّ القوانين المشدّدة لمنع السرقة أم المطلوب منها أن تسنّ قانونا لقطع يد السارق؟ ثالثا، هل أن صلاحية تدخّل الهيئة التشريعية تقتصر على المجالات المتصلة بالحياة العامة أم هي تسنّ قوانين أخلاقية ودينية ليس الخروج عنها مضرّا بالآخرين، مثال أن الشريعة تقضي على المسلم والمسلمة أن يغتسلا بعد الجنابة والحيض، فهل من مشمولات البرلمان أن يسنّ قانونا يفرض الاغتسال ويقيم هيئة رقابة شرعية للتثبت ممن كان جنبا أو كانت حائضا؟


إذا ضمّنا في الدستورأنّ الشريعة مصدر من مصادر القانون فإنما نقرّر تحصيل حاصل، لأن القوانين التونسية متناغمة في مجملها مع الشريعة، وإذا وجدت استثناءات يمكن للمجالس البرلمانية القادمة معالجتها دون حاجة إلى هذا التضمين.بالمقابل، فإنّ هذا التضمين لن يحسم الجدل في القضايا الخلافية الثلاث التي ذكرنا. بل الأخطر في رأي يأن دعوى الشريعة قد تحوّلت في السنوات الأخيرة من مفهومها الإصلاحي إلى مفهوم وهّابي (سلفي) يقضي بمنع كل اجتهاد جديد، وتقديم الحرف على المقصد، وسنّ القوانين في المجالات الفردية، ما يعني أن تضمين الدستور مفهوم الشريعة سيفتح الباب على مصراعيه لمطالبات الحركات الوهابية (السلفية) بتطبيق الفهم الضيّق للشريعة، وستعمّ المظاهرات والاحتجاجات في هذا الغرض كما نرى في باكستان وأفغانستان، وسترتفع أصوات المطالبة بالتراجع عن "مجلة الأحوال الشخصية" على كلّ المنابر، ويدخل المجتمع في فتنة متواصلة، وقد ورد في الأثر "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها".


فالرأي عندي أن لا نضع في الدستور ما يزرع بذور الفتنة بين المواطنين ويفتح المجال لتأويلات خارجة عن صلاحيات الهيئة التشريعية في دولة مدنية، ويمكن التعويض عن ذلك بإضافة عبارة في توطئة الدستور تشير إلى أنه، أي الدستور، "مستلهم من روح الإسلام ومقاصده الشرعية"، مع التأكيد مع ذلك على مدنية الدولة تأكيدا واضحا جليا لمنع كلّ التأويلات المتعسفة. إذ لا يخفى أن الدستور لا يصاغ لسنة أو بضع سنوات وإنما يراد له أن يستمرّ أجيالا بل قرونا، وقد تصل في الأثناء أغلبيات مختلفة إلى السلطة، ويمكن أن تحظى الحركات الوهابية (السلفية) بالأغلبية يوما ما، فمن وظائف الدستور أن يكون رادعا لكلّ من يروم التخلص من مدنية الدولة، وأن لا يحتوي على مادة يمكن استغلالها يوما من الأيام لتقويض الروح المدنية العامة للدستور، وأن لا تتناقض فصول الحريات في الدستور مع فصل قابل أن يؤوّل ضدّها، لا سيما أن كلّ التيّارات السياسية المكوّنة للمجلس التأسيسي الوطني تعلن اتفاقها على مدنية الدولة، إلا إذا كان ذلك نفاقا سياسيا وازدواجا في الخطاب من قبل البعض
.
ولا يخفى أن تضمين الدستور مفهوم الشريعة لا يضمن التزام الدولة بمطالب الشعب وتطلعاته وسيرها على منهج قويم في
سياسته، بدليل أن أكثر الدساتير تشدّدا في هذا المجال هما دستور السودان في عهد عمر البشير ودستور اليمن في عهد علي عبد الله صالح، والبلد الأوّل أصبح أفقر بلدان العرب وانفرط عقد وحدته الوطنية، والثاني جرفته موجة الثورات العربية، فالقضية ليست المزايدة في النصوص ولكن ضمان حسن التطبيق. بالمقابل، فإنّ أوّل دستور يصاغ بعد الربيع العربي، وهو دستور المملكة المغربية، لا يتضمّن مفهوم الشريعة ويركّز على الاستلهام من الإسلام، وبما أننا نتطلع إلى تقريب التشريعات بين أقطار المغرب العربي فإن التقارب مع الدستور المغربي في هذا الموضوع أمر مطلوب.


وأخيرا، أذكّر بالعبارة المأثورة التي أوردها خير الدين التونسي في مقدّمة كتابه "أقوم المسالك"، وخير الدين كما يعلم الجميع هو رائد الحركة الدستورية في البلاد التونسية، فقد نقل عن ابن القيّم: "إن إمارات العدل إذا ظهرت بأيّ طريق كان فهناك شرع الله ودينه".

 (*) أستاذ التعليم العالي ورئيس المرصد العربي للأديان والحريّات

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire