vendredi 21 mars 2014

الجزء الرابع و الأخير من حوار محمد حسنين هيكل : إعادة بناء العلاقات الخارجية و هيكل يذكر دروس التاريخ







"علاقاتنا بالعالم تحتاج إلى عملية ترميم وإصلاح  ضخمة، فقد مرت علينا فترة ركزنا فيها على علاقة واحدة، هي العلاقة بالولايات المتحدة الأمريكية... والخسارة مضاعفة"
 
"استعادة مصر لدورها الإقليمي والدولي : الشوط أمامنا مازال طويلاً - وطويلاً جداً "




"البشارات بغير حقائق على الأرض قش طائر تتلاعب به الرياح في يوم عاصف"


  


التطورالأبرز في الأيام الأخيرة هو زيارة المشير عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع ونبيل فهمي وزير الخارجية لموسكو . كيف تري توقيت الزيارة، وتأثير التقارب في العلاقة مع واشنطن، والأهم ماهي حسابات التقارب في بيئة متغيرة تختلف بالقطع عن سنوات الشراكة المصرية - الروسية من الخمسينات إلى منتصف السبعينات؟
- علاقاتنا بالعالم تحتاج إلى عملية ترميم وإصلاح ضخمة، فقد مرت علينا فترة ركزنا فيها على علاقة واحدة، هي العلاقة بالولايات المتحدة الأمريكية .

والخسارة مضاعفة، فنحن لم نضع كل ما لدينا في السلة الأمريكية، ولكن الأخطر أن العالم راح ينظر إلينا باعتبارنا بالفعل في هذه السلة، وأن أمرنا مفروغ منه ومواقفنا محددة سلفا إما بإشارات من واشنطن، أو بإيماءات منها إذا لم نفهم الإشارة من أول مرة

ذلك الرهان الذي وضعته السياسة المصرية في وقت من الأوقات لم يخسر فقط في الحرب والسلام، وإنما أثر أيضا في حلم التنمية، وفي حلم العمل العربي المشترك، وفي دور مصر في الإقليم وفي العالم . ربما أن أكبر الأخطاء التي وقعنا فيها ضمن هذا الرهان هو العلاقة مع الاتحاد السوفييتي الذي أصبح روسيا الآن

 
الروس لم يقصِّروا معنا وإنما توافقوا معنا على مصالح مشتركة، وليس دقيقا أنهم تعاونوا بكل ما تصرفوا به معنا من أجل مصر وحدها، ولكنهم فعلوه بما كانت تمثله مصر في العالم العربي، وفي إفريقيا، وفي العالم الثالث أيامها . كل تصحيح لعلاقاتنا مع القوى الكبرى لازم وضروري، وكل جهد في هذا السبيل له قيمة، ومن المهم أن يتسع هذا الجهد لكي يصل إلى مواقع كانت قريبة منا: الصين والهند وإفريقيا وأمريكا اللاتينية . هناك جهد كبير مطلوب، لكن الخسائر الفادحة التي وقعنا فيها حين تحوَّلت علاقاتنا مع العالم إلى زيارات كرنفال: طيارات تحط، وحرس شرف يصطف، وطوابير مدعوين تنتظر، ومآدب تُقام، ثم تعود المواكب محمَّلة بالهدايا



ربما أن لي ملاحظتين على تغطية الإعلام المصري للزيارة :
   

 أولاها: مقلق، بتركيز هذا الإعلام أكثر من اللازم على تعليق الرئيس الروسي بوتين، والذي قال فيه إن ترشح المشير السيسي ينم عن شعور بالمسؤولية، لا أعرف مبرراً لهذا التركيز، سوى عادة وقعنا فيها خلال زمن انسحابنا من العالم، وشوقنا إلى كل شهادة تُعطى لنا، لكن التركيز على الزيارة كانت مفيدة بالتأكيد ومستحقة . والزيارة كانت ردا على زيارة سبقتها من وزير الدفاع الروسي ومعه وزير الخارجية، وردها جاء من وزير الدفاع ووزير الخارجية . صحيح أن وزير الدفاع الروسي حين زار القاهرة، كان المشير السيسي هو وزير الدفاع، لكنه الآن مرشح للرئاسة، وأظن أن الإعلام المصري كان عليه أن يرد المسائل إلى أصلها وفي إطارها من دون إيحاءات تخلط الوزير بمرشح الرئاسة . أظن أننا في هذه الفترة الحرجة نحتاج إلى تجنُّب خلط الأوراق، خصوصا بواسطة الإعلام الرسمي أو غير الرسمي
 
والملاحظة الثانية: أن الإعلام صوَّر الزيارة وكأنها استعادة لدور مصر الإقليمي والدولي، وتلك مبالغة خطرة، لأن الشوط أمامنا مازال طويلاً - وطويلاً جداً .


دعوا السيسي يتحرك بهدوء ويتحرك بثقة، من دون أن نحمِّله أعباء مبالغات إعلامية تثقل عليه من دون مقتضى . وربما علينا أن نتذكر أن الرأي العام عندنا وحولنا وبعيدا عنا يتشكل بالانطباع أكثر مما يتأثر بالاقتناع . بوتين قال ملاحظة وهي صحيحة، لكن التركيز عليها بأكثر مما هو لازم للسياق، قد يعطي انطباعا يخرج بها عن القصد والمقصود . إضافة إلى ذلك فإنه لا يصح أن يُقال إن زيارة موسكو قلبت الموازين الإقليمية والدولية : ساعة ونصف الساعة في اجتماع بين وفدين، وربع الساعة لقاء ثنائي كرجلين . والموازين في الزمن الجديد لها حسابات أخرى، ولها قواعد لابد أن ندرسها، وببساطة فهذا ليس زمن الحرب الباردة، ومن الخطأ اعتماد منطقها في زمن لم يعد زمنها
 


بما تنصح المرشحين في السباق الرئاسي الجديد ؟


الساحة الانتخابية هذه المرة تحتاج من كل المرشحين إلى خطاب من نوع مختلف
والسبب أن البلد عند مفترق طرق لا يحتمل الخطأ، وإنما يحتمل الصواب فقط، ولذلك عليه أن يتوقى الحذر . وهناك مدرستان في الخطاب الانتخابي عادة: خطاب من الأحلام الوردية يتصور بعض الناس أنه يكسب الأصوات على أساس أن حساب الأحلام الوردية يجيء بعد الفوز وبعد السلطة، ووقتها لكل حادث حديث . وخطاب يعتبر أن أحلام الورد مناسبة لأيام الاحتفال، وأما أوقات العمل الجاد، خصوصا لمواجهة تحديات مصيرية، فإنها تحتاج إلى خطاب المصارحة، واستدعاء الإرادة بعده.

 
كلا المدرستين في الخطاب معروفة في منافسة الانتخابات، وفي ساحة السياسة عموما، وحتى في ظروف الحرب . ولعل أظهر الفوارق بين الخطابين هو ما عرفناه من خطاب الحرب العالمية الثانية :

- خطاب أدولف هتلر الذي بدأ الحرب العالمية الثانية بحلم وردي يضمن لألمانيا سيادة كاملة على أوروبا، ولألف عام من سيادة الرايخ الثالث الذي أسسه جامعا للأمة الألمانية بأسرها.

- ثم هناك خطاب ثانٍ قدمه ونستون تشرشل حين تولى رئاسة الوزارة البريطانية زمن الحرب، وحليفه الرئيسي زمنها - فرنسا - يستسلم أمام هتلر، والجيش البريطاني في أوروبا ينسحب انسحاباً كاملاً وغير منظم أمام جحافل المدرعات الألمانية، من ميناء دنكرك عائدا إلى بريطانيا، ووقف تشرشل وقتها يقول للشعب البريطاني: "ليس عندي ما أقدمه لكم غير العرق والدم والدموع" . وكان هتلر بحديث الورد غارقا في الأوهام، وكان تشرشل بمواجهة الواقع صادقا في تصوير الحقيقة . وانتهت الحرب العالمية الثانية، والنتيجة : - خطاب هتلر الوردي وأحلامه بالرايخ الذي يعيش ألف عام وصلت إلى تدمير الرايخ الثالث، واستسلامه بلا قيد أو شرط، وانتحار هتلر نفسه بعد أن أوصى بحرق جثمانه حتى لا يمثل الغزاة بجثته. وخطاب "تشرشل" بالحقائق عبَّأ بريطانيا بقدر حجم التحدي، ووصل إلى الجائزة المطلوبة في أي حرب، وهي جائزة النصر . 
 
ينسى بعضنا قواعد بدهية في صراعات الأمم : 

 الشجاعة من دون معرفة - مهانة

 والمعرفة من دون شجاعة - عجز

والقاعدة الذهبية في الصراعات أن تجتمع الإرادة والحقيقة في نفس الموقف، خصوصا إذا كان الموقف أزمة شبه وجودية، أو وجودية بالفعل . لكن بعضنا يتفاءل ويتشاءم . يريد أن يسمع الكلمة حلوة لأنها تشيع الراحة . ولا يريد أن يسمع الكلمة واضحة لأنها تشيع الإحباط . يقيني أن خطاب الانتخابات المقبلة مطالب بأن يؤجل ولو مؤقتا مواسم الورد، وأن يواجه بشجاعة مطالب الحقيقة، لأن السنوات المقبلة سوف تكون اختبارا بين مستقبلين :

-مستقبل تتحول فيه مصر بأحلام الورد الواهمة - إلى دولة فاشلة ...
كل الزهور تذبل صباح اليوم التالي



- -أو مستقبل تتحول فيه مصر بشجاعة معرفة الحقيقة واستدعاء الإرادة - إلى دولة قادرة على العصر، ومواكبة للتقدم . يظل اعتقادي بأن صوت التنبيه إلى الأزمات أكثر لزوما من اللجوء للتمويه على حقائق هذه الأزمات . ولست أعرف حتى الآن لماذا يكون التحذير إحباطا، ولماذا يكون التمويه أملا؟ . مازلت أتذكر تجارب عديدة مباشرة آخرها تجربة تخص الرئيس الأمريكي باراك أوباما، كان داخلا إلى البيت الأبيض وسط حفاوة عربية تبشر به رجلا قادرا على فهم قضايا العرب ونصرتهم، فهو باللون، وبدماء إفريقية في عروقه، وبإيحاءات إسلامية تظهر حتى في اسمه: باراك أوباما (باراك أصلها بركات، وأوباما تصحيف لأبو عمامة)، وهذا معناه أن أصول الرجل: عربية (بالاسم)، إسلامية (بالعمامة)، بل وإن أحد أحباء الرئيس الأمريكي الجديد كان في الأصل شيخ طريقة.
 
وأجريت حديثا في ذلك الوقت مع جريدة "الشروق"، أداره معي عدد من أقدر وألمع الصحافيين في مقدمتهم الصديق الراحل الأستاذ سلامة أحمد سلامة، وفي هذا الحديث أبديت مخاوفي من أن أوباما لن ينجح، ولن يفهم، ولن يحسم، وأبديت أسبابي، وكان أكثر ما أثار دهشتي أن كثيرين ردوا عليَّ بدعوى إثارة الإحباط، وأتذكر ردا موجها إليَّ نشرته الشروق أيضا، وكان عنوانه مباشرا يقول لي: "بشِّر ولا تنفِّر يا أستاذ هيكل" . ولم أكن أريد أن أبشِّر أو أنفَّر، فتلك ليست مهمة صحافي، وإنما مهمة الصحافي أن يتابع ويرصد، وأن يعرض ويحلل قدر ما يرى من الحقيقة، ووفق ما يتقصى من احتمالاتها . باختصار المعركة الانتخابية القادمة يتحتم أن تكون خطابا واضحا صريحا، وليس إنشائيا مراوغا أو مداورا
أحلام الورد بلا مستقبل، والحقيقة هي المستقبل، مع أني أعرف أن الدواء مر، والمخدر مريح . لا تنفع البشارات إذا لم تساندها حقائق - البشارات بغير حقائق على الأرض قش طائر تتلاعب به الرياح في يوم عاصف
التطور الأحدث والأبرز في الأيام الأخيرة هو زيارة المشير عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع ونبيل فهمي وزير الخارجية لموسكو . كيف تري توقيت الزيارة، وتأثير التقارب في العلاقة مع واشنطن، والأهم ماهي حسابات التقارب في بيئة متغيرة تختلف بالقطع عن سنوات الشراكة المصرية - الروسية من الخمسينات إلى منتصف السبعينات؟
- علاقاتنا بالعالم تحتاج إلى عملية ترميم وإصلاح ضخمة، فقد مرت علينا فترة ركزنا فيها على علاقة واحدة، هي العلاقة بالولايات المتحدة الأمريكية . والخسارة مضاعفة، فنحن لم نضع كل ما لدينا في السلة الأمريكية، ولكن الأخطر أن العالم راح ينظر إلينا باعتبارنا بالفعل في هذه السلة، وأن أمرنا مفروغ منه ومواقفنا محددة سلفا إما بإشارات من واشنطن، أو بإيماءات منها إذا لم نفهم الإشارة من أول مرة .
ذلك الرهان الذي وضعته السياسة المصرية في وقت من الأوقات لم يخسر فقط في الحرب والسلام، وإنما أثر أيضا في حلم التنمية، وفي حلم العمل العربي المشترك، وفي دور مصر في الإقليم وفي العالم . ربما أن أكبر الأخطاء التي وقعنا فيها ضمن هذا الرهان هو العلاقة مع الاتحاد السوفييتي الذي أصبح روسيا الآن .
الروس لم يقصِّروا معنا وإنما توافقوا معنا على مصالح مشتركة، وليس دقيقا أنهم تعاونوا بكل ما تصرفوا به معنا من أجل مصر وحدها، ولكنهم فعلوه بما كانت تمثله مصر في العالم العربي، وفي إفريقيا، وفي العالم الثالث أيامها . كل تصحيح لعلاقاتنا مع القوى الكبرى لازم وضروري، وكل جهد في هذا السبيل له قيمة، ومن المهم أن يتسع هذا الجهد لكي يصل إلى مواقع كانت قريبة منا: الصين والهند وإفريقيا وأمريكا اللاتينية . هناك جهد كبير مطلوب، لكن الخسائر الفادحة التي وقعنا فيها حين تحوَّلت علاقاتنا مع العالم إلى زيارات كرنفال: طيارات تحط، وحرس شرف يصطف، وطوابير مدعوين تنتظر، ومآدب تُقام، ثم تعود المواكب محمَّلة بالهدايا .
ربما أن لي ملاحظتين على تغطية الإعلام المصري للزيارة:
- أولاها: مقلق، بتركيز هذا الإعلام أكثر من اللازم على تعليق الرئيس الروسي بوتين، والذي قال فيه إن ترشح المشير السيسي ينم عن شعور بالمسؤولية، لا أعرف مبرراً لهذا التركيز، سوى عادة وقعنا فيها خلال زمن انسحابنا من العالم، وشوقنا إلى كل شهادة تُعطى لنا، لكن التركيز على الزيارة كانت مفيدة بالتأكيد ومستحقة . والزيارة كانت ردا على زيارة سبقتها من وزير الدفاع الروسي ومعه وزير الخارجية، وردها جاء من وزير الدفاع ووزير الخارجية . صحيح أن وزير الدفاع الروسي حين زار القاهرة، كان المشير السيسي هو وزير الدفاع، لكنه الآن مرشح للرئاسة، وأظن أن الإعلام المصري كان عليه أن يرد المسائل إلى أصلها وفي إطارها من دون إيحاءات تخلط الوزير بمرشح الرئاسة . . أظن أننا في هذه الفترة الحرجة نحتاج إلى تجنُّب خلط الأوراق، خصوصا بواسطة الإعلام الرسمي أو غير الرسمي .
- والملاحظة الثانية: أن الإعلام صوَّر الزيارة وكأنها استعادة لدور مصر الإقليمي والدولي، وتلك مبالغة خطرة، لأن الشوط أمامنا مازال طويلاً - وطويلاً جداً .
دعوا السيسي يتحرك بهدوء ويتحرك بثقة، من دون أن نحمِّله أعباء مبالغات إعلامية تثقل عليه من دون مقتضى . وربما علينا أن نتذكر أن الرأي العام عندنا وحولنا وبعيدا عنا يتشكل بالانطباع أكثر مما يتأثر بالاقتناع . بوتين قال ملاحظة وهي صحيحة، لكن التركيز عليها بأكثر مما هو لازم للسياق، قد يعطي انطباعا يخرج بها عن القصد والمقصود . إضافة إلى ذلك فإنه لا يصح أن يُقال إن زيارة موسكو قلبت الموازين الإقليمية والدولية .
ساعة ونصف الساعة في اجتماع بين وفدين، وربع الساعة لقاء ثنائي كرجلين . والموازين في الزمن الجديد لها حسابات أخرى، ولها قواعد لابد أن ندرسها، وببساطة فهذا ليس زمن الحرب الباردة، ومن الخطأ اعتماد منطقها في زمن لم يعد زمنها .
بما تنصح المرشحين في السباق الرئاسي الجديد؟
- الساحة الانتخابية هذه المرة تحتاج من كل المرشحين إلى خطاب من نوع مختلف .
والسبب أن البلد عند مفترق طرق لا يحتمل الخطأ، وإنما يحتمل الصواب فقط، ولذلك عليه أن يتوقى الحذر . وهناك مدرستان في الخطاب الانتخابي عادة: خطاب من الأحلام الوردية يتصور بعض الناس أنه يكسب الأصوات على أساس أن حساب الأحلام الوردية يجيء بعد الفوز وبعد السلطة، ووقتها لكل حادث حديث . وخطاب يعتبر أن أحلام الورد مناسبة لأيام الاحتفال، وأما أوقات العمل الجاد، خصوصا لمواجهة تحديات مصيرية، فإنها تحتاج إلى خطاب المصارحة، واستدعاء الإرادة بعده .
كلا المدرستين في الخطاب معروفة في منافسة الانتخابات، وفي ساحة السياسة عموما، وحتى في ظروف الحرب . ولعل أظهر الفوارق بين الخطابين هو ما عرفناه من خطاب الحرب العالمية الثانية:
- خطاب أدولف هتلر الذي بدأ الحرب العالمية الثانية بحلم وردي يضمن لألمانيا سيادة كاملة على أوروبا، ولألف عام من سيادة الرايخ الثالث الذي أسسه جامعا للأمة الألمانية بأسرها .
- ثم هناك خطاب ثانٍ قدمه ونستون تشرشل حين تولى رئاسة الوزارة البريطانية زمن الحرب، وحليفه الرئيسي زمنها - فرنسا - يستسلم أمام هتلر، والجيش البريطاني في أوروبا ينسحب انسحاباً كاملاً وغير منظم أمام جحافل المدرعات الألمانية، من ميناء دنكرك عائدا إلى بريطانيا، ووقف تشرشل وقتها يقول للشعب البريطاني: "ليس عندي ما أقدمه لكم غير العرق والدم والدموع" . وكان هتلر بحديث الورد غارقا في الأوهام .
وكان تشرشل بمواجهة الواقع صادقا في تصوير الحقيقة . وانتهت الحرب العالمية الثانية، والنتيجة:
- خطاب هتلر الوردي وأحلامه بالرايخ الذي يعيش ألف عام وصلت إلى تدمير الرايخ الثالث، واستسلامه بلا قيد أو شرط، وانتحار هتلر نفسه بعد أن أوصى بحرق جثمانه حتى لا يمثل الغزاة بجثته، ولا تزال معالم مخبئه الأخير مزارا سياحيا موجودا وراء بوابة براندنبورغ، يقصد إليه بعض السواح ليتذكروا .
- وخطاب "تشرشل" بالحقائق عبَّأ بريطانيا بقدر حجم التحدي، ووصل إلى الجائزة المطلوبة في أي حرب، وهي جائزة النصر . ينسى بعضنا قواعد بدهية في صراعات الأمم .
- الشجاعة من دون معرفة - مهانة .
- والمعرفة من دون شجاعة - عجز .
والقاعدة الذهبية في الصراعات أن تجتمع الإرادة والحقيقة في نفس الموقف، خصوصا إذا كان الموقف أزمة شبه وجودية، أو وجودية بالفعل . لكن بعضنا يتفاءل ويتشاءم . يريد أن يسمع الكلمة حلوة لأنها تشيع الراحة . ولا يريد أن يسمع الكلمة واضحة لأنها تشيع الإحباط . يقيني أن خطاب الانتخابات المقبلة مطالب بأن يؤجل ولو مؤقتا مواسم الورد، وأن يواجه بشجاعة مطالب الحقيقة، لأن السنوات المقبلة سوف تكون اختبارا بين مستقبلين:
- مستقبل تتحول فيه مصر بأحلام الورد الواهمة - إلى دولة فاشلة . . كل الزهور تذبل صباح اليوم التالي .
- أو مستقبل تتحول فيه مصر بشجاعة معرفة الحقيقة واستدعاء الإرادة - إلى دولة قادرة على العصر، ومواكبة للتقدم . يظل اعتقادي بأن صوت التنبيه إلى الأزمات أكثر لزوما من اللجوء للتمويه على حقائق هذه الأزمات . ولست أعرف حتى الآن لماذا يكون التحذير إحباطا، ولماذا يكون التمويه أملا؟ . مازلت أتذكر تجارب عديدة مباشرة آخرها تجربة تخص الرئيس الأمريكي باراك أوباما، كان داخلا إلى البيت الأبيض وسط حفاوة عربية تبشر به رجلا قادرا على فهم قضايا العرب ونصرتهم، فهو باللون، وبدماء إفريقية في عروقه، وبإيحاءات إسلامية تظهر حتى في اسمه: باراك أوباما (باراك أصلها بركات، وأوباما تصحيف لأبو عمامة)، وهذا معناه أن أصول الرجل: عربية (بالاسم)، إسلامية (بالعمامة)، بل وإن أحد أحباء الرئيس الأمريكي الجديد كان في الأصل شيخ طريقة .
وأجريت حديثا في ذلك الوقت مع جريدة "الشروق"، أداره معي عدد من أقدر وألمع الصحافيين في مقدمتهم الصديق الراحل الأستاذ سلامة أحمد سلامة، وفي هذا الحديث أبديت مخاوفي من أن أوباما لن ينجح، ولن يفهم، ولن يحسم، وأبديت أسبابي، وكان أكثر ما أثار دهشتي أن كثيرين ردوا عليَّ بدعوى إثارة الإحباط، وأتذكر ردا موجها إليَّ نشرته الشروق أيضا، وكان عنوانه مباشرا يقول لي: "بشِّر ولا تنفِّر يا أستاذ هيكل" . ولم أكن أريد أن أبشِّر أو أنفَّر، فتلك ليست مهمة صحافي، وإنما مهمة الصحافي أن يتابع ويرصد، وأن يعرض ويحلل قدر ما يرى من الحقيقة، ووفق ما يتقصى من احتمالاتها . باختصار المعركة الانتخابية القادمة يتحتم أن تكون خطابا واضحا صريحا، وليس إنشائيا مراوغا أو مداورا .
أحلام الورد بلا مستقبل، والحقيقة هي المستقبل، مع أني أعرف أن الدواء مر، والمخدر مريح . لا تنفع البشارات إذا لم تساندها حقائق - البشارات بغير حقائق على الأرض قش طائر تتلاعب به الرياح في يوم عاصف . - See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/de735d14-aba9-4a8d-8e45-f7d94a1b3f9d#sthash.ba3827wH.dpuf

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire